أخبار عاجلة
مواعيد مباريات اليوم السبت 5102024 والقنوات ... -

علامات البحر وطقوس الهجرة

علامات البحر وطقوس الهجرة
علامات البحر وطقوس الهجرة

بقدر ما يبتهج الصغار لعبًا ومرحًا برمل شاطئ البحر، حيث يُشيِّدون من خلاله خيالات معماريات بسيطة وأشكالًا هندسية مختلفة الأبعاد، وتماثيل لحيوانات، ويحفرون حفرًا لتستقبل أجسادهم في علاقة بتمثيل عملية الدفن؛ كلّ هذا اللعب الطفولي يكتمل مع حركية المدّ، وكأنه يخطفها منهم وهم يبتسمون، ظنًّا منهم أنه سيحتفظ لهم بها في أعماقه. أو هي وظيفة ذهنية طفولية تستحضر فرحة حكاية الطوفان، حيث خلاص البشرية من الشرِّ وحِفظ كل ما هو خيرٌ على أرض الناس.

اليوم انقلبت علامات أحلام الطفل في علاقة برمزية بحره ورمله وأرضه، وتغيَّر اللعب الطفولي المغربي من التخييل وحلم اليقظة إلى الفعل-الرغبة في المتناقضات: الهلاك أو النجاة. يا للغرابة التي أسهمت في تحوُّلات ذهنية الطفل المغربي، حيث كان يتمتع بحرين كريمين، وانقلب شعوره إلى أنه صار بلا بحر ولا برّ، ومن ثمة فقد الحياة وفقدنا معه حيواتنا. نحن وإن كبرنا، فذلك الطفل دائم الحضور منهكٌ ومتعبٌ إلى حدّ الانكسار من شرّ ما يقع بيننا.

هل أحصينا كم من طفل مات بحرًا؟ كم من طفل بلا مهارات حياتية تستعيد توازنه داخل بهلوانية السياسي اللا-أخلاقي؟ كم من طفل يُرمى خارج قوانين دستورية تحفظ أحلام طفولته وتضمن الاستمرارية؟ ربما صعب أو مُغيّبٌ هو الجواب في الدراسات الإنسانية، السياسية والاجتماعية. لكن الصورة الخامّة المنقولة عبر الوسائط التواصلية المختلفة تقول الحقيقة، حقيقتنا، وللأسف الشديد والمؤلم إلى حدِّ إدماء القلوب وإغماء العقول.

الطفل باعتباره مادة ترابية، ونحن كذلك من تراب وسنعود إلى التراب، إنه طفلنا الذي تغيّر ولا أحد التفت إلى تغييره. إنه رأى ما لم نقدر على رؤيته؛ رأى عظمة بحره وجوهره، حيث صار للطفل قُوّة خيال شاسع لا مُستقر له. يتحمل الضرب والشتم والتعذيب، وفي مرات “الطنز” عندما يُقال له: “ممكن أن تصير طبيبًا أو مهندسًا أو مُقاوِلًا”، هل هذا يتحقق خارج الأسرة والتربية السليمة والمدرسة النموذجية؟ لا يمكن، هذا كلام لا يقبله العقل.

لقد صار للطفل تخييل حركي ومُتقلب، لطيف وعنيف، بريء وغامض. فما أن يضع الأطفال جماعة أقدامهم على رمل شاطئ ما، يتخلصون من هُويتهم وكأنهم يتخلصون من أحذيتهم. الآن هم في ضيافة المُقدس بالمعنى التام لما يتصورونه وفق ثنائية (الحياة/ الشهادة). وتشتغل ذاكرتهم في تناسق مع صوت وهواء البحر وأحلام الهناك البعيد/ القريب، هذا يزيد من دينامية الذاكرة، حتى الذين فقدوا ذاكرتهم فإنهم يستحضرون حدثًا آنيًا مؤلِمًا، فينسجون على منواله حكايتهم.

يتساوى حلم الأطفال أمام البحر وتُبنى الحكايات. أجمل الحكايات هي التي تلامس ماء البحر. لم تَعُد تربطهم بالأرض أية علاقة، وكأنهم في حالة تهجير اضطراري. إنهم سئِموا من رسم قلوب من يحبون على الرمل تعبيرًا عن حب مضى، أملاً في العودة، أو هو حبّ آتٍ، أملاً في أن تُبارِكه حوريات البحر.

شعروا بالجرح، فرغبوا في كتابة أسمائهم وأسماء مَنْ وقفوا بجانبهم، ومن ساندوهم، ومن جرحوهم، ومن أفرحوهم، ومن غابوا عنهم على بحر، لعلّه ينصفهم ويساندهم وهم يفرغون فيه وعليه كلّ أحاسيسهم ومشاعرهم الباطنية. يبوحون للبحر بأسرارهم التي رفضت أن تحميها أحزابهم السياسية، بل صدّت الأبواب في وجوههم وهم ينظرون إلى الطائرات تمر فوق رؤوسهم تحمل أبناء القادة السياسيين إلى أحسن المدارس والجامعات العالمية.

لو حضر بينهم عباس ابن فرناس الأندلسي لرغبوا في تجريب الطيران من أعلى قمم جبال الأطلس. أكيد المغامرة ستكون فاشلة، لكنهم أكثر ذكاءً، اختاروا أسطورة الطوفان بالمقلوب، خارج حماية أسرية وخارج مهارات حياتية وفن الحياة، ولو في ظروف استثنائية غير طبيعية.

لكن ما إن انقلبت علامات الأسطورة، رفضوا الجبل لأنهم يُدركون إيمانًا منهم أن المدَّ والجزر فأل خير على الإنسانية، وأن كتابة آثارهم على ماء البحر تتمثل عملية الإنقاذ في علاقة برمزية الطوفان ودلالات الخلاص والنجاة. إنها محاكاة تطهيرية تعيد ترتيب الأحاسيس والعناصر الهووية للذات البشرية لتستأنف مسيرتها الدنيوية، أملاً في حياة جيّدة وفق إمكانيات الصراع السياسي والثقافي.

إن وقوف الفتية على البحر رجاء واستغاثة يستوضح الحالة القصوى لفعل التطهير والبوح في انتظار أن يأخذ الماء الكتابة إلى المناطق البعيدة في أعماق البحر، حيث هناك تلتقي كتابات عديدة تتشابه معنىً وتختلف لفظًا. هي سرود أسرار كثيرة لمن ضاعت أحلامهم على أرضهم، فالبحر يأتمِن عليها ويحفظها داخل قلبه الرحيم حين فقدنا القلب والعقل.

وما إن يحمل الماء الطفل وتغيب آثاره وينجح طقس عبوره ويتحقق مبتغاه، وهذا شبه مستحيل تحققه، هنا يتدرج الطفل الذي فَعَلَ فعل الكتابة في استرجاع بعض من طبيعته، وتأخذه دهشة هذا البحر العظيم إيمانًا بشرفه وقداسته، وتعتريه دهشة العالم الآخر المتفوق علينا في كل شيء.

لم نسمع ولو يومًا واحدًا أن أوروبيًا واحدًا ركِب البحر ومغامرة “الحريكَ”، ولو أثناء الحربين العالميتين. ممكن أن يصمت الأوروبي، ومن ثم يُعيد ترتيب بيته سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا.

فهل تمثل المغربي مجموع قيَّمه قبل الاستعمار وحقق تصالحًا مع بحره اقتصاديا وسياسيًا، ومن ثمة تحرره من دهشة تفوق “الآخر” وانحطاط “النحن”؟

أعتقدُ أن اللحظة التي يكون فيها المغربي، وهنا القصد هو المغربي الأصيل، قريبًا من البحر وعلى رمله حافيًا، تطالعه الرغبة في كتابة شيءٍ ما على رمله، أو صخره إن كان الجزر مكتملًا.

ماذا سيكتب؟

يكتب أسرار البسطاء الهامشيين الممزقين اقتصادًا وثقافةً وكرامةً وحرية. يَكتبُ الذين ينتظرون نبيًّا كنوح وعدالة طوفان، بالمعنى التام للتغيرات والتحوّلات الشرعية وفق حقل السياسة/ النقابة، انطلاقًا من الأسرة في المقام الأول، باعتبار أن الأسرة المغربية مؤسسة عظيمة تُشيِّد قوّة الحي والمجتمع.

إنه وببساطة، فالمغربي تعِبَ من سياسة الكذب وتبذير المال العام وصور الريع في مختلف أشكاله وبدون محاسبة.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق إسرائيل: غوتيريش يدعم الإرهابيين والقتلة
التالى تكثيف أعمال المرافق بالامتداد الجنوبي للقاهرة الجديدة