قال الدكتور فوزي بوخريص، أستاذ السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا بجامعة ابن طفيل رئيس المرصد المغربي للحياة الجمعوية والمدنية، إن الذباب الإلكتروني الجزائري صناعة من صنائع بوتفليقة جرى تطويرها في عهده والنهوض بها لدواعٍ داخلية، خاصة لمواجهة الحراك الشعبي الذي شهدته الجزائر منذ سنوات خلت.
وبعد أن عرّف الباحث المغربي، ضمن حوار مع جريدة هسبريس الإلكترونية، الذباب الإلكتروني الجزائري بكونه أداة عمل بوليسية واستخباراتية، تحمل في الجزائر توقيع جهاز العمل النفسي، التابع للشرطة السياسية (جهاز الأمن السياسي)، قال إن طريقة مواجهة هذا الذباب هي السخرية، وهي التي يستخدمها بشكل رئيسي المدونون الشباب الذين غالبًا ما يشاركون النكات كتابةً أو على شكل “ميمات” (mèmes)، أما الطريقة الثانية فهي التحليلات الجدية، التي تستند إلى بيانات وأرقام موضوعية وقراءات نقدية ومستنيرة، ينتجها خبراء في مجال الاتصالات وبعض المختصين في علوم الإعلام والاتصال والعلوم الاجتماعية.
وهذا نص الحوار
يلاحظ المتتبع منذ سنوات ما يشبه الحرب الرقمية التي يشنها النظام العسكري الجزائري بشكل يومي على المغرب (مؤسسات، ورموز، وتراث وتقاليد…)، ويجري الحديث في هذا الإطار عن ظاهرة “الذباب الإلكتروني” الجزائري، فما حقيقة هذه الظاهرة؟ وماذا تمثل في الواقع؟
لن نجد أفضل من الباحثين الجزائريين ونشاط حراك 2019 بالجزائر للتعرف على حقيقة هذه الظاهرة وأبعادها ورهاناتها الداخلية والخارجية، التي تطال تداعياتها بلادنا. فالذباب الإلكتروني الجزائري صناعة من صنائع بوتفليقة جرى تطويرها في عهده والنهوض بها لدواع داخلية، خاصة لمواجهة الحراك الشعبي الذي شهدته الجزائر منذ سنوات خلت.
فمثلما أن الشبكات الاجتماعية لعبت دورا أساسا في تطور الحراك الشعبي ضد نظام بوتفليقة، بأن أتاحت للنشطاء تداول المعلومة بشكل سريع، وتعزيز ما كان يسميه النشطاء الجزائريون “حراكا” أو “ثورة الابتسامة” التي انطلقت سنة 2019، سَتُسْتَعْمَلُ الشبكات الاجتماعية أيضا من طرف الذباب الإلكتروني الموظف من طرف عناصر الشرطة السياسية من أجل التصدي لنشطاء الحراك، بنشر أخبار زائفة أو محاولة بث الفرقة في صفوف الحراك، دون التوصل مع ذلك إلى نتائج مقنعة.
والواقع أن الجزائر عرفت ظاهرة الذباب الإلكتروني قبل حراك 2019. فخلال الانتخابات الرئاسية التي أتاحت لعبد العزيز بوتفليقة الفوز بالولاية الرابعة سنة 2014، استعان النظام الحاكم بوكالة اتصالات جزائرية من أجل إغراق الشبكات الاجتماعية بتعليقات ومنشورات تمجد المترشح عبد العزيز بوتفليقة وشيطنة خصومه، خصوصا علي بن فليس. الوكالة جندت أشخاصا لهم دراية بعالم الإنترنت والشبكات الاجتماعية لهذا الغرض، وكانت تمدهم بشكل مستمر بلائحة الرسائل المتعين نشرها ولائحة أخرى بالحسابات والصفحات التي يتعين التبليغ عنها (à signaler) لدى المواقع والمنصات الرقمية…
وبعد النجاح الذي لاقته ظاهرة الذباب الإلكتروني في تمرير الولاية الرابعة، سيستعين النظام الجزائري من جديد بذبابه في سنة 2019، بغاية “التسويق” للولاية الخامسة لدى الجزائريين الرافضين والمغلوب على أمرهم.
وكما لاحظ المتتبعون الجزائريون، يفترض أن تستكمل هذه الاستراتيجية الجديدة وأدواتها الرقمية، وعلى رأسها الذباب الإلكتروني، البروباغاندا التي تقوم بها وسائل الإعلام الرسمية التقليدية، المكتوبة منها والسمعية البصرية، التي وضعت استراتيجية تواصلية داعمة للولاية الخامسة، بتعاون مع الوجوه السياسية الفاسدة والأوليغارشيات المحيطة ببوتفليقة.
وإلى اليوم، لا يزال متواصلا الأسلوب نفسه في العمل، في نوع من التنسيق وتبادل الأدوار، الذي يجعل الذباب الإلكتروني يروج ويقوم بتدوير أخبار وقصاصات وفيديوهات وصور القنوات والجرائد الرسمية، المقربة من النظام، وعندما يتطلب الأمر ذلك، تعمل وسائل الإعلام التقليدية على الترويج وتدوير الأخبار والمعطيات الرقمية التي يتم الترويج لها عبر المواقع والصفحات والحسابات المزيفة لفلول الذباب الإلكتروني.
والذباب الإلكتروني في الجزائر له مقرات خاصة، من أولى هذه المقرات يذكر نشطاء الحراك الجزائري في عهد بوتفليقة وجود بناية شهيرة من أربعة طوابق في حيدرة بالجزائر العاصمة، ذات حراسة أمنية مشددة، كان النشطاء يروجون صورها على صفحاتهم الفيسبوكية (Omar Benderra et autres 2020).
إلا أن البنية التحتية واللوجستيكية للذباب الإلكتروني الجزائري ستتطور بفعل الميزانيات المرصودة له والرهانات المتزايدة، خصوصا في مرحلة ما بعد حكم بوتفليقة.
ففي عهد تبون ستوجه صناعة الذباب الإلكتروني وجهة خارجية بالأساس، من أجل مواجهة أعداء وهميين لدولة العسكر، وجرى تطوير هذه “الصناعة” البوليسية والاستخباراتية بشكل غير مسبوق: أولا، من أجل إلهاء المواطنين الجزائريين عن مشاكلهم الحقيقية، وخصوصا لثنيهم عنها، وعلى رأسها نقد نظام العسكر وحصيلة تدبيره الكارثية للبلاد وتثبيط همتهم للحيلولة دون تحركهم ضده.
ثانيا، من أجل مواجهة الأعداء المفترضين للبلاد. ويضع نظام العسكر على رأس الأعداء الوهميين المطلوبين لحشود الذباب الإلكتروني الجزائري: المغرب أو إمبراطورية المخزن أو “المروك”.
لهذا، بتنا لا نتفاجأ عندما نعاين في عالمنا الرقمي المغربي تسلل جموع الذباب الإلكتروني الجزائري إلى مواقع وصفحات وجرائد إلكترونية صرف مغربية تتوجه إلى مواطنين مغاربة، يتفاعلون فيها مع نظرائهم المغاربة ويتحدثون في أمور محض مغربية. فهذا الذباب الإلكتروني الجزائري المشغول، حد الهوس، بكل ما هو مغربي، يتحرك بتوجيهات رسمية عسكرية واستخباراتية، حددت له مهمة استهداف المغرب: تاريخا ومؤسسات ورموزا وتراثا وقيادة…
ومن المهام المحددة للذباب الإلكتروني الجزائري إضافة إلى استهداف المغرب، السعي لبناء هوية تاريخية لدولة العسكر، الفاقدة لكل شرعية تاريخية، بالبريكولاج، والسرقة والكذب وتزييف الحقائق التاريخية. نشير هنا على سبيل المثال إلى ما يجري من سطو رمزي على الزليج المغربي والقفطان المغربي واللباس التقليدي المغربي عموما، والتراث الغذائي المغربي في تنوعه وعراقته، وعادات وتقاليد الزواج والاحتفالات الدينية والدنيوية المغربية. ونشير أيضا إلى منافسة مسجد بوتفليقة لإشعاع مسجد الحسن الثاني الرمزي والديني، ومؤخرا خلق دروس ‘محمدية” لمنافسة الدروس الحسنية، والمحاكاة التامة للطقوس والممارسات الدينية بالمغرب إلى درجة خلق مسخ كاريكاتوري يبعث على الضحك ويثير الشفقة.
ما الداعي إلى اهتمامكم بموضوع الذباب الإلكتروني؟
تناول هذا الموضوع هو مناسبة للانتباه إلى ما سماه بعض الباحثين والمهتمين “الوثائق غير المألوفة” (documents inhabituels) التي تعبر عن الحياة العقلية والاجتماعية والاقتصادية، خصوصا الوثائق الرقمية، بتتبع واستثمار كم هائل من الوثائق (تدوينات وصور وفيديوهات…) المنشورة على الإنترنت حول مختلف مظاهر الحياة الإنسانية اليومية. فمنذ سنة 2010 والإنسانية تنتج كما هائلا من المعلومات؛ بحيث إن ما ننتجه اليوم من معطيات في يومين يفوق ما أنتجته البشرية منذ ابتكار الكتابة قبل 5300 سنة، و98 في المائة من هذه المعلومات هي اليوم على شكل رقمي. إذ نعاين اليوم فعلا ترجمة لمختلف مكونات عالمنا إلى معطيات رقمية. كل شيء يتحول إلى معطيات رقمية: صور، تصاميم هندسية، موسيقى، لوحات، استعمالات الزمن، وثائق إدارية، أفلام، وصفات طبخ…الخ. فالواقع أن من خصوصيات الرقمي اليوم أنه اكتسح كل مجالات حياتنا، من البعد الأكثر حميمية فيها إلى البعد الجماعي.
انطلاقا من سنوات التسعينات، بدأت الإنترنت تمس مختلف مناحي الحياة اليومية لكل شخص، حتى وإن كانت استعمالاتها تكشف عن اختلافات ملموسة بين الأجيال والانتماءات الاجتماعية والمجالية.
ومع نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة، بدأ الهاتف الذكي (smartphone)، باعتباره منتجا تقنيا جديدا، يربط بشكل مستمر الأشخاص بالإنترنت، وبإتاحة الفرصة لهم للولوج إلى خدمات ومعلومات، في حلهم وارتحالهم. فالهاتف الذكي صار التكنولوجيا الأساسية لإنسان هذا العصر الرقمي.
وطبعا يعبر الإنتاج الضخم للمعطيات عن تفاصيل الحياة الإنسانية، كما يتيح للأنظمة السياسية ولعمالقة التكنولوجيا اليوم تحديد الأنشطة الإنسانية الرقمية والتحكم فيها، مثلما يسمح للباحثين في العلوم الاجتماعية بتتبع أدق تفاصيلها، بما في ذلك ما يرتبط بممارسات الاحتجاج الرقمي (كل أشكال الحراك الاجتماعي) أو أشكال التلاعب الرقمي (manipulation numérique) ونشر الأخبار الكاذبة (fake news)، وعمليات الدعاية والتضليل، من هنا الاهتمام بظاهرة الذباب الإلكتروني.
هل من تعريف للذباب الإلكتروني، الجزائري بالتحديد؟
الذباب الإلكتروني أداة عمل بوليسية واستخباراتية، تحمل في الجزائر توقيع جهاز العمل النفسي، التابع للشرطة السياسية (جهاز الأمن السياسي)، الذي اعتبره ناشطو الحراك سيئ السمعة وذا مهام قذرة.
يوجد نوعان من الذباب الإلكتروني: المتصيدون البشريون والروبوتات الآلية، التي تدبر آلاف مؤلفة من الحسابات المجهولة والصفحات المزيفة على شبكات ومواقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك، واتساب، تويتر، ميسنجر، إنستغرام، تيك توك…)، والمستعدة للهجوم والدفاع، والتشويش والتشهير والتبليغ، ولتزييف الحقائق ونشر الأخبار المزيفة، ولانخراط في أي ثورة مضادة وإجهاض أي حراك أو ثورة مفترضة على شبكات التواصل الاجتماعي، لا سيما فيسبوك وتيك توك.
ويمكن التمييز بين ثلاث طرق أساسية في عملها.
الطريقة الأولى تتمثل في إطلاق أخبار ونداءات أو دعوات وهاشتاغات تتماشى مع القرارات التي يفرضها النظام البوليسي، بهدف استهداف شخصيات أو جهات معينة
الطريقة الثانية تتمثل في اختراق أو شراء أو إرشاء وتجنيد الصفحات والمواقع المعروفة والمؤثرين المشهورين الذين لهم آلاف وملايين المتابعين والقراء والمعجبين.
الطريقة الثالثة هي الإبلاغ (signaler) عن الصفحات والمجموعات والحسابات المستهدفة، بهدف حذفها أو تعطيلها مؤقتا أو بصفة دائمة، أو أحيانا التشويش على جلسات البث المباشر على مواقع التواصل الاجتماعي لبعض الشخصيات المشهورة أو غزوها من قبل أفواج من المتصيدين الذين يبثون رسائل كراهية أو إهانة (Amine Bendjoudi, 2020).
وبالموازاة مع التبليغ يتم إنشاء عدد لا يحصى من الصفحات والمواقع والحسابات البديلة المزيفة، بأسماء وهويات الأشخاص المستهدفين أنفسهم، من أجل تحويل تدفق المشتركين الذين يتابعونهم منذ سنوات نحو وجهة بديلة ومتحكم فيها.
هذا طبعا عدا الملاحقات الأمنية والقضائية والمحاكمات بمبرر محاربة الجرائم الإلكترونية، وكذا إطلاق حملات تشهير وشيطنة بعض الشخصيات المعارضة والمستهدفة، وإثارة القضايا الانقسامية وتفجير فضائح، وكل ما بإمكانه توجيه الرأي العام وتحويل اهتمامه عن موضوع معين واقعي نحو آخر مفبرك.
والملاحظ أن وتيرة نشاط الذباب الإلكتروني تهدأ وترتفع تبعا لدينامية أحداث الواقع وحدة الصراع وأهمية الاستحقاقات السياسية والأمنية للنظام العسكري في صراعه مع القوى الحية الداخلية التي يفترض أنها تشكل تهديدا له، لاستعدادها لدعم أي حراك أو مساءلة للنظام ولرموزه، وفي حربه المفتوحة مع الأعداء الخارجيين (وعلى رأسهم المغرب)، الذين يتفنن النظام الجزائري في صنعهم صنعا لتوجيه الرأي العام المحلي عن مشاكل البلاد ولتعزيز التماسك المجتمعي المفقود.
هل هناك إمكانية لمواجهة ظاهرة الذباب الإلكتروني؟
يمكننا انطلاقا من تجربة الحراك الاجتماعي في الجزائر (أو في بلدان أخرى شبيهة مثل إيران في مواجهتها لحراك النساء)، التمييز بين ثلاثة أنواع من المعالجة المضادة للذباب الإلكتروني على الشبكات الاجتماعية:
الأداة الأولى هي السخرية، التي يستخدمها بشكل رئيسي المدونون الشباب الذين غالبًا ما يشاركون النكات كتابةً أو على شكل “ميمات” (mèmes) (صور أو مقاطع فيديو توضيحية مصحوبة بتعليقات فكاهية) للسخرية من الأخبار الكاذبة أو تصريحات بعض الشخصيات. إن الفكاهة وسيلة فعالة للغاية لإيصال الرسائل، ولتبديد مساحات الغموض التي تحيط بكثير من الموضوعات.
وليس غريبا والأمر كذلك أن ينجح الحراك في الجزائر في الشهور التي سبقت جائحة كوفيد، بفضل اعتماد نشطائه على السخرية كثيرا، فنشطاء الحراك اعتبروا حراكهم عبارة عن “ثورة الابتسامة” (révolution du sourire).
الأداة الثانية هي التحليلات الجدية، التي تستند إلى بيانات وأرقام موضوعية وقراءات نقدية ومستنيرة، ينتجها خبراء في مجال الاتصالات وبعض المختصين في علوم الإعلام والاتصال والعلوم الاجتماعية (علماء الاجتماع وعلماء السياسة والصحافة…).
الأداة الثالثة هي اللامبالاة، بتجاهل تعليقات وتدوينات ومنشورات حشود الذباب الإلكتروني حتى لا تتم المساعدة على انتشارها، ويتم بالتالي الحد من تأثيراتها. وقد يساعد الإبلاغ عن حسابات الذباب الإلكتروني على فضحها وعلى تحذير المواطنين منها ومن مجاراة أصحابها في نشر الأخبار الزائفة ورسائل الكراهية (Amine Bendjoudi, 2020).
المؤكد أن حل مواجهة هذه الظاهرة السلبية ليس لا أمنيا ولا تقنيا فحسب، فمهما كانت الاحتياطات المتخذة، فلن ننجح تماما في تجنب كل مخاطر وتهديدات ظاهرة رقمية مثل الذباب الإلكتروني.
الإمكانية المثالية لمحاربة الظاهرة هي النهوض بالتنشئة الرقمية، الكفيلة بمد المواطنين المرتبطين بشبكة الإنترنت (connectés) بالأسلحة المناسبة لمواجهة مثل هذه الظاهرة وغيرها.
فمن الضروري تشجيع معرفة أفضل بالإنترنت وبالتكنولوجيات الجديدة وأدواتها المختلفة من أجل تطوير استعمالها بشكل آمن؛ فالعالم الرقمي هو ما يصنع به المجتمع، فهو يمكن أن يكون نعمة أو نقمة، محررا أو عامل استيلاب، مفيدا أو مضرا. والتربية الرقمية، بما هي تربية على الرقمي (éducation au numérique) وتربية بواسطة الرقمي (éducation par le numérique) مدخل ضروري لتعزيز كفايات وقدرات نقدية للتعاطي مع العالم الرقمي بشكل آمن.
ما حدث في شمال المغرب يوم 15 شتنبر 2024 (محاولة الحريك الجماعي للشباب والمراهقين) كشف أهمية حرب الصور والفيديوهات على شبكات التواصل الاجتماعي. فما الذي أضافته في رأيكم تكنولوجيا الإعلام والاتصال، وخصوصا الشبكات الاجتماعية، لفعل الاحتجاج اليوم؟
لا شك أن الإنترنت، “شبكة الشبكات”، صارت أداة أساسية في خدمة أنماط جديدة من المشاركة في الفعل الجماعي، وتوسيع طيف المشاركين في الديناميات الاحتجاجية، وتيسير أشكال التعبئة ونوعيتها (حجمها وقوتها…)
فإذا كانت الحركة المناهضة للعولمة، مثلا، استندت إلى البريد الإلكتروني، ولوائح الإرسال، وأنظمة النشر المفتوحة والمدونات، فإن الحركات الاجتماعية الأحدث، المكونة من الأشخاص الذين نشؤوا مع الإنترنت (digital natives) وظفوا الإنترنت 2.0، واستثمروا الشبكات الاجتماعية.
وقد ساهم تطور استعمال الشبكات الاجتماعية في تجديد طرق إنتاج وتداول وتملك البيانات والدعامات الرقمية (الصور والفيديوهات والميمات…الخ) الموظفة في الممارسات الاحتجاجية (Olivier Filleule, 2020).
شبكات التواصل الاجتماعي ليست واحات للنقاش الديمقراطي، الذي يتيح لوجهات النظر المختلفة حول الواقع أن تلتقي وتتفاوض، بل وتتواجه فيما بينها، بل أدت، بفعل ألغوريتمات الانتقاء أو الفرز الآلي للمضمون التي تضعها غوغل وفيسبوك وتيك توك ومختلف عمالقة التكنولوجيا الرقمية، التي تسجننا بشكل اصطناعي داخل تمثل متحكم فيه ذي بعد واحد للعالم، إلى إضعاف الحياة الديمقراطية بشكل كبير (Pierre Mounier, 2018) (بل وتم تشجيع ما يناقضها: الشعبوية، التفاهمة…)، يظهر ذلك بشكل جلي في الصعود القوي للشعبويات وإيديولوجيات اليمين المتطرف وانتشار التفاهة والسطحية بكل أشكالهما.
وفي المقابل، فمع استعمال الإنترنت على نطاق واسع، بدأت تنتشر الأفكار بسرعة كبيرة وصار تطورها وتفاعلاتها وتأثيراتها أقل قابلية للتوقع مما كان عليه الأمر في السابق، وهو ما يفسر فجائية الثورات الراهنية (Paul Jorion, 2011).
صار من المسلم به بالنسبة لعدد من الباحثين أن من بين أسباب نجاح الثورات العربية، كان وسائل الاتصال الافتراضية. فقد انتبهت بعض الأبحاث والتقارير، خلال الربيع العربي، إلى الدور الذي لعبته الشبكات الاجتماعية في تعزيز زخم الحركات التي كانت تطالب بالديمقراطية. لكن بعد ثلاثة عقود على انطلاق حراك الربيع العربي، بدأ يتبين أن الرقمي لا يحتضن فقط “الآمال والمطالب الديمقراطية”، وإنما يسمح بظهور ممارسات جديدة، منافية ومزعزعة للاستقرار ومهددة للديمقراطية (Serge Abiteboul et Valérie Peugeot , 2017).
لم تعد هناك من حركة اجتماعية لا يتم تصويرها فيلميا ولا يتم نشر صورها وميماتها وأشرطتها السمعية البصرية عبر الإنترنت من طرف الفاعلين ولا يتم توسيع دائرة تبادل تلك الأشكال التعبيرية الرقمية على نطاق واسع، فبدون هذه الصور والفيديوهات والميمات ما كانت للانتفاضات أن تحدث في تونس، كما تقول إلريك لين ريبوني (Urike Lune Riboni) في أحد إصداراتها حول هذا الترابط بين الاحتجاج ونشر وتداول الصور والفيديوهات عبر الإنترنت في التجربة التونسية (Urike Lune Riboni, 2023).
فلا شك أن استعمال الأدوات الرقمية قلص بشكل كبير تكاليف التنسيق والإخبار والتعبير والتعبئة والتحرك. فالإنترنت والشبكات الاجتماعية تمنح الأفراد والجماعات، في خضم الحياة السياسية والمدنية، بنية تحتية للتبادل، لم يعد بالإمكان التحكم فيها بشكل مطلق، من الحراس (gatekeepers) التقليديين للمجال العام (Dominique Cardon, 2019). فمن الربيع العربي إلى حراك النساء الإيرانيات، مرورا بأصحاب السترات الصفراء في فرنسا، وحملة مقاطعة المواد الاستهلاكية في المغرب…الخ، أثبتت الصور والفيديوهات والميمات فعاليتها كسلاح للاحتجاج والمواجهة.
تشكل أشكال التعبير الرقمية (الصور والفيديوهات) نظرات بديلة، “متمردة”، تبني سردية أخرى للواقع غير سردية السلطة.
صحيح أن الصور والفيديوهات شكلت تاريخيا أداة ضبط اجتماعي ولإعادة إنتاج علاقات الهيمنة ولنشر الصور النمطية حول الآخر (جنسا أو عرقا أو طبقة…)، لكنها تحولت اليوم إلى أداة مفضلة للتعبئة والمقاومة والصراع في العديد من الممارسات الاحتجاجية، خصوصا مع تطور تكنولوجيات الإعلام والاتصال.
وتبعا لذلك، بدأ الفاعلون التقليديون في الحياة الديمقراطية يرون سلطتهم وأدوارهم وصلاحياتهم تتأثر وتهتز بشكل كبير. لكن لا يعني ذلك أن الإنترنت بصدد تقويض سلطة المؤسسات ومبادئ الديمقراطية التمثيلية التقليدية. فالدول ووسائل الإعلام والأحزاب السياسية تظل في صلب سير هذه الديمقراطية الإلكترونية. وقد وجدت هي نفسها مكانها تدريجيا في العوالم الرقمية، بل إن تواطؤ أشكال التعبير الرقمية (الصور والفيديوهات…) مع الأنظمة السياسة، بما في ذلك الشمولية والقمعية، تواصل وتعمق في هذا العصر الرقمي.
اليوم، ليس فقط تكنولوجيات إنتاج الصور والفيديوهات التي تبدو أحيانا مشبوهة، بل أيضا تلك التي تحتضنها وتتيح نشرها وتداولها. فالمنصات الرقمية التي تحتضنها، والتي تعد اليوم فاعلا أساسيا في الرأسمالية الرقمية، لم يتم تصورها في الأصل لدعم الثورات والاحتجاجات ولتوسيع مساحات الحرية. إذ تشن الأنظمة السياسية والمقاولات الرقمية حربا مستعرة في ميدان الصور وتكنولوجياتها، بتملكهما لطرق الفعل، والتعبير، والنشر والتداول أو التضييق والتوجيه والتضليل والتحكم.
ربما الجديد اليوم هو تغير التوازنات السياسية والمدنية بشكل عميق، بفعل ظهور المجال العام الرقمي، المطبوع بالمواجهة والاضطراب والتوتر، الذي أتاح توسيع مجال النقاش العمومي بشكل كبير، وسمح بجعل الخطاب الصادر من المركز (مؤسسات السلطة كيفما كانت) غير فعال دائما، بل وممكنا الاعتراض عليه، إذ صار المواطن يتوفر على وسائل وشبكات تواصل تفاعلية في جيبه (هاتفه الذكي)، فلم تعد القرارات تُتخَذُ ولم تعد تُحَددُ الأجندة السياسية والإعلامية بالكيفية نفسها.
لكن دون الاعتقاد بحتمية أشكال التعبير الرقمية (التدوينات، والصور والميمات والفيديوهات…)، كما سبق أن اعتقد آخرون بحتمية التقنية، والاعتقاد بأنه بدون فيسبوك وتويتر وتيك توك لا يمكن للثورة أن تحدث، فإن المؤكد، مثلما أن الصور والفيديوهات وتكنولوجيتهما وظفا لزمن طويل من أجل خدمة الضبط الاجتماعي، وبناء أو استدامة التمثلات، في خضم الأنظمة السياسية، كما في سياق أشمل، ضمن العالم الرأسمالي المطبوع بالتفاوتات والاستغلال، (المؤكد) أن هذه الصور والفيديوهات ذاتها شكلت ولا تزال أداة للاحتجاج ضد تعسفات السلطة وضد التفاوتات والاستغلال، خصوصا اليوم، في زمن تطورت فيه آلات التصوير المرتبطة بالإنترنت ورأسمالية المنصات الرقمية، وفي زمن الممارسات المتفردة التي تجعل الصور والفيديوهات منتجة بشكل ذاتي وموضوعة ذاتيا على شبكة للإنترنت.
فمجيء الرقمي هو ثورة فعلية غيرت طرقنا في التواصل، وفي العمل، وفي الترفيه، ولكن أيضا في الجريمة والجنوح والإرهاب، وطبعا في الاحتجاج. وهذا طبيعي لأن كل الأنشطة الإنسانية اليوم لها ما يقابلها ويمثلها في العالم الرقمي، هذا العالم الذي بقدر ما صار مجالا للحرية ومكانا غير مسبوق للتواصل، بقدر ما تحول مع الأسف إلى منفذ مفتوح إلى كل التجاوزات والمخاطر.
وما حدث في شمال المغرب يوم 15 شتنبر 2024 كشف أهمية حرب الصور والفيديوهات، حيث عاينا فيديوهات منتجة ذاتيا وموضوعة ذاتيا على شبكة للإنترنت، في اتصال مباشر مع الأحداث الجارية.
وعموما، بفضل نشر الحدث مباشرة على الإنترنت أو البث المباشر، تصل الأحداث والتظاهرات الجماعية إلى مئات، وآلاف، بل وملايين الأفراد الذين لم يكونوا حاضرين لحظة وقوعها. وهكذا يتوسع “مشهد ظهور الحدث” في الزمان والمكان ويصير متاحا دون واسطة. فكل ذلك سمح بظهور أشكال جديدة من الفعل السياسي، بتعبير جوديت باتلر. وبعد أن كان توظيف الصور والفيديوهات بالخصوص يكاد يكون حكرا في البداية على السينمائيين أو طلبة السينما، صار اليوم متاحا للمناضلين والمواطنين العادين للتوثيق، والشهادة والإثبات والاحتجاج، دون أن يكون لديهم بالضرورة تكوين سينماتوغرافي. فديمقراطية الأدوات جعلت الممارسات الفيلمية أمرا متاحا لغير المتخصصين (Urike Lune Riboni, 2023).